لدي ما يكفي من الحزن لتتهاوى جدران على جدراني دون أن أستطيع الكلام ولدي ما يكفي من العتب لأجرح قلب أي عابر، ولدي من الحنين ما يكفي لأتعلق بحبال الهواء، فلا أنا أقع ولا أنهض واقفاً بأنفة محارب في معركته الأخيرة!
منذ فارقوني و أنا أشعر ببرد لا دفء له رغم كل الحرائق التي اشتعلت فيّ وحولي من فوقي وتحتي عن يميني وشمالي، نعم احترقت، احترقت كثيراً و لم أدفأ !قتلتني ذاكرة أشيائهم الكثيرة التي هجروها, أغرقني قهر الزوايا هنا جلسوا هنا سهروا هنا ضحكوا هنا بكوا على تلك الشرفة الصغيرة لطالما سمعتهم يسامرون الليالي تحت ظل شجرة الكينا الكبيرة التي تمسح الطريق وتجتاز ظلالها المسافات بين مركز الشهيدة حلوة زيدان إلى الطرف الآخر من الشارع، لن أنسَ كيف كانت تؤنسهم في الصباحات القديمة أصوات قاطنيها فللأشجار ساكنوها أيضاً، لقد كان ذلك الخليط الصوتي العجائبي من زقزقة الطيور وأبواق السيارات وأصوات الباعة الجوالين مع أنغام أغاني فيروز هو أفضل سمفونية يمكنك أن تستيقظ عليها في مكان كهذا!. ولا يقل عنه عجباً مزيج الروائح المختلفة التي تشمّها من الشرفات، بين أزقة الحواري أو من واجهات المحال الصغيرة. بين العطرة والحبق، الكينا والقهوة، الخبز “التازة” وعوادم السرافيس والتكاسي اللامتناهية العدد.
لا زلت أستجمع من بين الركام صوراً بهتت ملامحها بالتقادم كلما مرت الأيام في غيابهم، ولكن هل يمكن أن تغيب عن الذاكرة أو يطويها النسيان؟! أنا المطعون بإثم الصمود رأيت جيراني يتساقطون أطلالاً كأوراق الخريف اليابسة، هدّني نوح الفراغ ووحشة الأماكن اليباب وما تأوه من جراحات الحواري أكثر مما فعل أي قصف أو استطاعت أية قذيفة أروض أوجاعي حتى لا تضل طريق الشوق لأصواتهم البعيدة.
أعلم أنهم يتصلون مراراً على الهاتف الصامت أبداً، تدغدغ قلبي ذبذبات نبضهم حين يرن، ولا أستطيع الرد فأنتهي بين النحيب والاستجداء لعل من فارقوا أحضاني بلا وداع، يعودون دون وصايا! ضاقت بي الأرض، وذبحني العجز أنا الثابت بكينونتي المتحرك بأرواحٍ غادرت ولم تغادر، لو أنني فقط أستطيع الحركة إلى أول القوس، إلى خارج الحصار، إلى ما وراء الحاجز!
فمنذ أن دخل هذا الحي لعبة الموت وأنا أتهاوى! من يمسح دمع الأماكن؟ من يخاطب أشجان الجدارن الممزقة؟ ماذا لو أن الحجر الموجوع يخرق أبواب المسافة؟! كيف ستبعث الحياة من روح الطين وحده، بلا روائح، بلا أصوات تهز الشوارع والأزقة، أو تخيط جروح الركام وتزيّن نواحي هذا الخراب بالفرح واللقيا؟ من يطلق فراشات النور لتضمد جراح الأبواب المغلقة والنوافذ المعتمة؟ لِمَ لا تجمع البيوت المهجورة أشياءها وترحل مع أصحابها؟!
تساؤلات مشروعة ربما، إنما مثخنة بالجراح ككسر في سياج حلم! كمن يحك بأظافر من ملح جرحاً مدفوناً في بطن غيمة. كما البشر تنتحب البيوت بفعل الهجر، تقتلع الصرخات منها اقتلاع العيون من المحاجر! ولها في الموت سكرات أيضاً.
هنا دمشق، شارع اليرموك الذبيح وأنا المنزل رقم 37 جادة الشهيد مفلح السالم المعفرة بالدم، تلك المنطقة المعروفة بحارة الفدائية. منذ غادروني وأنا وحيد مغدور وضائع وكيف لا تنوح البيوت اليتيمة؟ وفيها أبجدياتٌ من سحاب وحنين، من سراب وشوق! وليس بها ما / من يُؤنس “فالبيوت تموت إذا غاب سكانها!”.