ما انفكت القوى المسيطرة، في عموم العالم الثالث وفي البلاد العربية خصوصا تعمل على اختراق الأدوات النقابية وتدجينها، لتنقلب إلى واحدة من أدوات سيطرتها ولتعمل عكس ما وجدت له في الأصل وهو حماية مصالح العاملين المنتسبين إليها وتحسين شروط عملهم.
من هنا نجد كيف تحولت اتحادات الفلاحين والطلاب والمعلمين وسواها في سوريا مثلا إلى أدوات بيد حزب البعث الحاكم للسيطرة على تلك القطاعات والعاملين فيها، وتحويلهم إلى مجرد تابعين له يخدمون سياساته. وهذا ينسحب على مختلف البلدان التي عانت ما عانته سوريا من سيطرة الحزب الواحد، كما ينسحب على البلدان التي حكمها العسكر. وفي العقدين الأخيرين توسعت هذه الظاهرة حتى باتت معظم الأدوات النقابية في العالم أدوات للسيطرة على منتسبيها بدل أن تكون أدوات لخدمة مصالحهم.
في لبنان، وبعد اتفاق الطائف وتكريس الوصاية السورية عليه، عمدت القوى المسيطرة من ميليشيات الحرب الأهلية ومافيات المال، وبدعم كامل بل بتوجيه من نظام الأسد، إلى تدمير الأدوات النقابية الموجودة من خلال اختراقها واستتباعها. فكانت المواجهة الأولى بين قوى السلطة مدعومة من نظام حافظ الأسد وبين الاتحاد العمالي العام الذي تنضوي تحت لوائه مختلف الأدوات النقابية باستثناء المهن الحرة (أطباء ومهندسين ومحامين وصيادلة)، في حين كان ممنوعا على الموظفين العمل النقابي إلى أن تشكلت في وقت لاحق منظومة من الروابط في التعليم الرسمي والجامعي والإدارة العامة انضوت جميعها تحت مسمى هيئة التنسيق النقابية. هذه المواجهة مكنت قوى السلطة من إسقاط رئيس الاتحاد العمالي العام في حينه إلياس أبورزق والسيطرة على الاتحاد وإخضاعه لها.
وفي المواجهة الثانية قبل سنوات قليلة، تم اختراق هيئة التنسيق النقابية وشرذمة صفوفها. اليوم تشهد الجامعة اللبنانية بجميع كلياتها وفروعها إضرابا مفتوحا تقوده رابطة الأساتذة المتفرغين، أتم أسبوعه السابع ليكون بذلك الإضراب الأطول مدة في تاريخها.
يأتي هذا الإضراب ردا على السياسة المالية للحكومة والتي تمس مباشرة أو مداورة مالية الجامعة ومكتسبات أساتذتها وموظفيها، كما يرفع جملة من المطالب المزمنة للأساتذة وأخرى ملحة ترتبط بظروف العمل من صيانة أبنية وتجهيز مختبرات ومختلف الحاجات المتعلقة باستمرارية العمل وتحسين شروطه في مختلف الفروع والأقسام والكليات والمعاهد التي تعاني من شح في التمويل ونقص حاد في التجهيز، كما يأتي ردا على التدخلات السياسية المستمرة من قوى السلطة والتي تنسف استقلالية الجامعة وحرية حركة عناصرها المكونة من إدارة وأساتذة وطلاب.
تحتضن الجامعة اللبنانية أكثر من ثمانين ألف طالب في مختلف الاختصاصات والكليات والفروع، ما يجعلها من أكبر الجامعات في المشرق العربي. هؤلاء الطلاب الذين يهمهم مصير جامعتهم ومستقبلها باتوا بين حجري رحى: التضحية من أجل مستقبل الجامعة من جهة، ومصير عامهم الدراسي من جهة أخرى. وهذا يسهل على قوى السلطة أن تضع الطلاب في مواجهة أساتذتهم.
ولدت الجامعة اللبنانية من رحم الصراع الاجتماعي بين الطبقات الشعبية المفقرة التي وجدت في ارتقاء سلم التعليم مدخلا إجباريا لتغيير واقعها والحركة الطالبية الناشئة من جانب، وبين الطبقة السياسية الحاكمة التي يرعبها لفظ كلمة التغيير من جانب آخر. فكانت ولادة الجامعة اللبنانية ثمرة انتفاضة شعبية وطلابية وإضراب مديد ومواجهات مع القوى الأمنية أسفرت عن سقوط عدد من المصابين وعن سقوط أول شهيد للجامعة الوطنية الموعودة وهو الطالب فرج الله حنين، كان ذلك مطلع سنة 1951 ما أجبر الحكومة اللبنانية وقتها على اتخاذ مرسوم إنشاء النواة الأولى للجامعة في 5 فبراير 1951.
تعتبر الجامعة اللبنانية من أكبر المؤسسات العامة التي تتمتع بموجب قانونها الأساسي الصادر تحت رقم 75/67 بتاريخ 26 ديسمبر 1967 باستقلاليتها على المستويات الأكاديمية والإدارية والمالية. هذه الاستقلالية “النسبية” مكنت الجامعة اللبنانية خلال سنوات قليلة أن تتوسع لتضم عددا كبيرا من الأقسام والكليات والمعاهد وعشرات ألوف الطلاب اللبنانيين والعرب.
تنظر القوى السياسية الممسكة بالسلطة في لبنان بمختلف أحزابها إلى الجامعة اللبنانية كمساحة لاستغلال النفوذ ومجال للمحاصصة والمقايضة في ما بينها، وتخضِع التوظيف فيها للمحاصصة الطائفية والحزبية، وتعمل لتجعل من فروعها في المحافظات كناية عن مراكز قوى للأحزاب المتنفذة في كل محافظة. هذه الأحزاب التي دأبت على فرض إرادتها في تعيين المدراء والعمداء والكوادر التعليمية وفي تقاسم مجالس إدارتها ومجالس طلابها، وصولا إلى هيئات الأساتذة الأكاديمية والنقابية، يعد تدخلها هذا تجاوزا لاستقلالية الجامعة وتعديا فظا عليها.
هذه التدخلات السياسية إضافة إلى شح التمويل، أدت إلى تراجع أداء الجامعة بشكل لافت في العقدين الأخيرين. من هنا تأتي أهمية التحرك الأخير والإضراب المتواصل الذي يخوضه أساتذة الجامعة اللبنانية في وجه الحكومة وكذلك في وجه الأحزاب السياسية التي تطمئن إلى سيطرتها على فكي كماشة العمل الجامعي: الإدارة التي جاءت بالتحاصص الحزبي من جهة، ورابطة أساتذة تم اختراقها من جانب قوى السلطة، وأدى بالتالي إلى الضغوطات التي سيتعرض لها أساتذة الجامعة والتي قد تسفر عن إفشال إضرابهم وبالتالي تعليقه دون أي مكاسب.
غير أن تماسك الأساتذة في إضرابهم وإصرارهم على مطالبهم والتأييد الكبير لهم من قبل الطلاب، إضافة إلى انفكاك أعداد متزايدة من مؤيدي أحزاب السلطة من الأساتذة عن أحزابهم قلب حسابات أحزاب السلطة ويؤمل أن يغير المعادلات ليس فقط بالنسبة إلى المطالب، بل أهم من ذلك بالنسبة إلى العمل النقابي في الجامعة سواء على مستوى الأساتذة أم على مستوى الحركة الطلابية.
من هنا نرى تصاعد حالة التوتر التي تسم سلوك الحكومة وتدفع وزراء منها، غير معنيين مباشرة بالشأن التعليمي، إلى الدعوة لتعليق الإضراب من جهة، وترفع سقف التهديدات للأساتذة من قبل إدارة الجامعة خلافا للقانون من جهة ثانية وتجعل ممثلي أحزاب السلطة في الهيئة التنفيذية للرابطة يتغيبون عن اجتماعاتها لتفقد النصاب القانوني من جهة ثالثة ما يعني تزايد عزلة هؤلاء بين الأساتذة ومنهم منتسبو الأحزاب ذاتها الذين انتفضوا على أحزابهم لشعورهم بخيانة هذه الأحزاب لمطالبهم المحقة.
يبقى على الطلاب الذين يقفون اليوم إلى جانب جامعتهم الوطنية أن يدركوا أن مستقبلهم الأكاديمي والمهني ليس رهنا بإنهاء عام دراسي تأخر بسبب طول مدة الإضراب، بل بتوحدهم حول مؤسسة بحجم الجامعة الوطنية لحمايتها وصون استقلاليتها والتطلع إلى سنوات قادمة يكونون فيها قادرين على بناء مقدراتهم بالتعاون التام مع أساتذتهم. فكم من خريج معطل وكم من خريج يقبع على أبواب الزعامات مستعطيا وظيفة قد لا تتناسب واختصاصه ومؤهلاته العلمية، وكم من خريج ينتظر على أبواب السفارات تأشيرة خروج من جحيم البطالة والعوز اللذين تتسبب بهما السياسة الاقتصادية والاجتماعية لقوى السلطة.
وبغض النظر عن المردود الآني لإضراب الجامعة اللبنانية فإن صمود أساتذة الجامعة اللبنانية وطلابها المستقلين دفع عددا لا يستهان به من الحزبيين فيها ليكونوا في مواجهة أحزابهم ولينضموا إلى المستقلين في حراكهم، يمكن لو تم تعزيزه وتنظيمه، أن يشكل للمستقبل نواة عمل نقابي لبناني مستقل يعتد به. وللبنانيين أسوة حسنة بتجمع المهنيين السودانيين الذي أزاح بتضافر عناصره وقواه تلك المنظمات النقابية التي دجنها نظام عمر حسن البشير لتكون أدوات إخضاع للقوى العاملة في السودان.
المصدر: جريدة العرب
