اعتدنا منذ واحد وسبعين عاما على إحياء ذكرى النكبة، التي أدت إلى تهجير الشعب الفلسطيني من أراضيه وممتلكاته في العام 1948. الهدف منها دائما هو التذكير والإصرار على أننا لم ولن ننس أو نتخلى عن حقنا في العودة إلى دولتنا المستقلة وعاصمتها القدس. ولكن هل يمكن القول بأننا عاماً بعد عام، نتراجع بدلا من أن نحرز أي تقدم يذكر على مستوى القضية، إن كان في المحافل الدولية أو حتى على أرض الواقع؟.
للأسف نعم، فهذا هو الحال، فقبل عام ونصف تقريبا أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بقرار أحادي الجانب، اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، في خرق واضح لكل الأعراف والمعايير وحتى القوانين الدولية، في خطوة تمهيدية لتمرير ما يعرف بصفقة القرن، التي بدأت ملامحها بالانكشاف منذ كانون الأول/ ديسمبر العام 2017، والتي تقضي نهائيا على أي حلم بقيام دولة فلسطينية وان كانت على حدود العام 67، وهو ما دفع الإدارة الأميركية لإيقاف مساعدات الأونروا، تلك الوكالة المنشأة خصيصاً لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين، ولا ينتهي عملها إلا بانتهاء سبب لجوئهم وعودتهم إلى بلادهم، في خطوة منها للتضيق عليهم لقبول التوطين، إما في البلدان المقيمين فيها أو حتى في بلدان أخرى يقع عليها الاختيار لاحقا.
من جهة أخرى، ونتيجة الحرب في سوريا، تم تهجير ما لا يقل عن 165 ألف لاجئ، إلى بلدان مختلفة، ووصلت حصيلة الضحايا الفلسطينيين الذين تم توثيقهم إلى 3414 من بينهم 455 امرأة، ويوجد ما يقارب 1135 معتقلا فلسطينيا لدى أفرع الأمن والمخابرات التابعة للنظام السوري بينهم 80 امرأة، وقضى حوالي 192 لاجئا ولاجئة فلسطينيا نتيجة نقص التغذية والرعاية الطبية بسبب الحصار الذي كان مفروضا على مخيم اليرموك. كلها أرقام تدل على أن الفلسطيني في آخر السنوات لم يكن بأحسن حال، ليطالب بحقوقه المسلوبة يوم 15 من أيار في العام 1948، بل تحول إلى المطالبة «مبدأياً»، بالعودة إلى مخيماته، التي كانت تعتبر نقطة الانطلاق نحو الوطن الكبير، فلسطين، وخاصة وأن شعوب البلدان المستضيفة تؤمن جلياً بعدالة القضية الفلسطينية، فكانت للاجئ سنداً يواجه به عناد وتآمر حكومات، لم تفكر يوما إلى بالحفاظ على مناصبها ومكاسبها من الضياع.
أما غزة وسكانها، العالقين بين مطرقة غارات الاحتلال، وسندان قمع «حماس» لهم،,وبخلاف وضعهم المعيشي، الذي أصبح معروفا لدى القاصي والداني، فلا حول لهم ولا قوة غير تنظيم مسيرات العودة، التي ومنذ بدأت مطلع العام الماضي، أدت إلى استشهاد أكثر من 230، واصابة ما لا يقل عن 2000، في خطوة قد تكون، وبحسب الاحتلال، نقطة انطلاق لتفجر الأوضاع حتى في الضفة.
بعد واحد وسبعين عاماً من النكبة، يخوض اللاجئون الفلسطينيون، وخاصة المقيمون منهم في أوروبا، نوعا جديدا من الصراع، وهو صراع اثبات الهوية، وإثبات عدالة القضية. صراع اشتعل فتيله برفض حكومات دول كبرى، كألمانيا على سبيل المثال، باعتبار فلسطين دولة معترفا عليها، وبالتالي يعتبر اللاجئ الفلسطيني، كشخص لا يمكنه اثبات جنسيته، أي يسجل على أنه غير معروف الجنسية، بالرغم من تقديمه لكافة الأوراق والمستندات الثبوتية، سواء كانت صادرة عن الأونروا أو حتى عن بلدان اللجوء السابقة، كسوريا، ولبنان، مما يؤدي إلى عملية تمييز بينه وبين باقي اللاجئين من جنسيات أخرى، كحقه بتعلم اللغات الجديدة أثناء فترة انتظاره قرار المحاكم الخاصة باللجوء، والتي قد تطول لأكثر من عام كامل. وهو أيضا ما يؤدي مستقبلا إلى عدم تمكنه من الحصول على الجنسية الألمانية، بحجة عدم تحقق شرط إثبات الهوية.
أما في الاعلام الألماني، على سبيل المثال، وبحكم اطلاعي على طريقة تعامل اعلامهم مع قضيتنا، فلا تتوان كل وسائل الاعلام، مقروءة، مسموعة أو حتى مرئية، عن استغلال أي تحرك يخدم الفلسطينيين وقضيتهم، كحملات المقاطعة، وتحويله إلى نشاط معاد للسامية، بل وتعدى ذلك إلى تبرير العدوان الإسرائيلي على غزة بأنه دفاع عن النفس، كل هذا في ظل غياب وسيلة إعلام فلسطينية فاعلة، تتحدث لغة البلاد، عن إثبات عكس ذلك، وبالتالي تأثير هذا الضخ الممنهج سلبا على عدالة القضية الفلسطينية عند الرأي العام الألماني، فنظهر دائما بمظهر راديكاليين معادين للسامية، وارهابيين لا نتمنى سوى زوال إسرائيل.
ولكن لا أخطأ أبدا حين أقول، بأن شرائح كبيرة من أبناء شعبنا ترتكب أخطاء، ولا أنكر أنه في بعض المظاهرات الداعية إلى تطبيق القانون الدولي ومعاقبة إسرائيل على جرائمها، ورفض اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لها، ظهرت بعض الهتافات المعادية للسامية كـ «الموت لليهود»، والتي من غير المسموح استخدامها، إن كان في هذه البلاد أم في غيرها، لأن صراعنا الحقيقي هو ليس مع شخص يعتنق الدين اليهودي، ولكنه مع إسرائيل الصهيونية، التي تتخذ اليهودية درعا لها، في محاولة منها لإسقاط شعور الذنب على العالم أجمع، نتيجة ما حصل بحق اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، وبالتالي إيجاد الذرائع والتبرير لكل ما تفعله بحق الشعب الفلسطيني، حتى ولو أدى هذا إلى تحويل الفلسطينيين إلى «يهود محرقة جديدة».
ومن هنا، علينا اتباع استراتيجية جديدة لنقل صورة صحيحة واضحة وسليمة عن هذا الصراع وعن عدالة القضية الفلسطينية. فنحن، كفلسطينيين، بنظرهم ارهابيون حتى نثبت العكس، ليس بغرض استرضائهم، ولكن بنية كسب الرأي العام الشعبي المؤثر بسياسات حكوماته، وبالتالي الحصول على دعم أكبر في مواجهة المشروع الإسرائيلي، وخاصة وأننا على مدار الـ 71 عاما، لم نحصل على شيء من دعم أبناء جلدتنا، فالوقت قد حان، والفرصة الآن سانحة، للبحث عن طرق وأساليب جديدة وداعمين حقيقيين للقضية الفلسطينية، لعلنا نعود ولا ننتظر 70 عاما أخرى.