المشهد الأخير ـ ريم رشدان

في البدء كانت الفكرة، وأنا هنا الآن أُربّي قطعان الأمل جيلاً بعد جيل، لعلّها تقيني برد الوحدة.

ذات وطنٍ، حين كانت الأيام ملوّنة لم يكن أكثرنا تشاؤماً ليتخيل كَمّ الرمادية التي وصلنا إليها هذه الأيام!

أتعلمون، كنتُ أظنُّ أن الحياة تعاملني معاملة سيئة. كنتُ كثير الشكوى والتذمّر والتساؤل: لماذا لا تليق بي الحياة؟! واعتنقتُ هذا الفكر التشاؤمي سنين من عمري، مضتْ وجميعُ من حولي يحاول أن يقنعني أن قُم لحياتك، استلم زمامها، أدركها قبل أن تفوتك! وما كنتُ لأتحرك إلا بكارثة!

ثم كانت الحرب، الحرب، الحرب! وهل هناك كلمةٌ في اللغة تضاهي بشاعتها؟! الحرب أخذت مني كل شيء لكنها ـ غير مشكورة ـ قد أعادتني لذاتي. تعلّمتُ أنني وفي لحظة كان علي فجأة أن أتّخذ القرار بين أن أكون، أو لا أكون. لا يمكنني الجزم بأنني اخترت أن أكون.

حقيقةً لم يكن خياري، فلو خُيّرت لحظتها لاخترت الموت، الذي صفعني ناهراً يوم قابلته وجهاً لوجه وحاورته راجياً منه أن يأخذني معه، إلا أنه ضحك ساخراً، ثم توارى نحو ضوء لامع في الأفق، بعد أن أشار لي بيده بمعنى: لا يزال مشوارك طويلاً.

وها أنا أحمل بقاياي وأشقّ طريقي رغم أنفي وأنفه معاً!

أنا سعيد، وهذه ليست مجرّد حالة شعورية أعيشها هذه الأيام، إنه اسمي أيضاً. سعيد لأنني نجوت، سعيد لأنني هنا عشت لأروي ما حدث، وسعيد لأنني سأستلم بعد أيام هديتي التي أنتظرها بشغف طفل ينتظر صباح العيد منذ ثلاث سنوات تقريباً. تلك التي ستفتح لي آفاقاً جديدة للحب والحياة. الحياة التي توقفت أو كادت بمعنى ما، لكنها أزهرت بمعانٍ اخرى كثيرة.

أفكّر دائماً وبشكل متواصل، منذ أن وعدوني في المنظمة التي تطوعت فيها للترجمة بأنني القادم على لائحة المستحقّين: ما هو أول شيء سأفعله عندما أستلمها؟!

ربّما سأذهب بها إلى الغابة، فمنذ حللت هنا وأنا أتمنى أن أخوض في عمق الغابة وحيداً دون رفقة، لأمارس التأمّل علّني أحظى ببعض السلام الداخلي المفقود، منذ أول الآه وحتى حدود الألم.

أو ربّما سنمضي معاً في الأزقّة الطويلة المنتهية إلى اللامكان في هذه المدينة، دون أن أضطر للتعامل مع نظرات الآخرين نحو “الأنا الآخر” سواء كانت مستغربة، مشفقة، أم خائفة. بالتأكيد سأقف برفقتها تحت شرفة ابتسام، الجميلة ابتسام، الجميلة جداً! سأُغنّي لها كما توارد في أحلامي مراراً:

“لو شباكك ع شباكي كنت بقلك كيف بهواكي”

قد أستطيع بذلك أن أسرق ابتسامة تطابق اسمها، وتليق بمحياها، فلا أذكر منذ عرفتها أنني رأيتها تبتسم!
سأزورها في “الهايم” حيث تقطن مع مجموعة من اللاجئات، ثم أخطو ذهاباً وإياباً أمام ناظرها مردداً: “بتآمني بالحب من أول نظرة وإلا أرجع مر من أدامك” سأتباهى بطولي الفارع الذي لم تره من قبل فهي لم تعرفني إلا جالساً، رهين المحبسين، حزني الدائم، وهذا المقعد المتحرك الغبي الذي يقيدني إليه.

لا، سأكتب لها رسالة لتلتقيني بموعد عند البحيرة ربما أو أفاجئها في ليلة قمرية

ممممممم ماذا سأقول؟!

حبيبتي ابتسام: يا أنثى بنكهة الغيث، برائحة خبز الأمهات.

منذ عرفت حلاوة العسل في لون عينيك أدركتُ لماذا لم يكن لقائي الأخير بالموت، أخيراً!

يا ضفائر بلون الشمس تنسدل على جبين أيامي كأنها ستارة لمسرح أؤدي فيه مشهدي الأخير، ليتك تكونين بطلة مشهدي الأخير!

أحبيني لكي أستمر واقفاً، فبعد أيام فقط سأستلم ساقين جديدتين، عوضاً عن تلكما اللاتي أكلتهما قذيفة طائشة على أرض الوطن، فداء للوطن!

هل قلت الوطن؟!

حبيبتي إنني اليوم لاجئ لا يرجو من الدنيا وطناً آخر سوى قلبك!

 

حول ريم رشدان

فلسطينية من مواليد مخيم اليرموك، كاتبة ومترجمة، تخرجت من جامعة دمشق، كلية الآداب، قسم أدب انجليزي، وحاصلة على ماجستير لغويات، وماجستير ارشاد نفسي وتربوي. لها عدة كتابات منشورة. مقيمة حاليا في ألمانيا.

شاهد أيضاً

لاجئ المواصفات القياسيّة-إياد حياتلة

أنا اللاجئ المتسلسل، المتكرّر التشرّد والهجرات، المتنوّع أماكن النزوح، المتعدّد الهويّات المتآلفة المتناقضة، خَطوتُ الخطوة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *