سيبولي قلبي و ارحلوا “ريم رشدان”

هناك عامل ما جعل حياتنا السابقة في سوريا نحن أبناءَ جيل الثمانينات و التسعينات و ربما بدايات الألفين مرتبطة بأسماء ماركات معينة مما كنا نسميه بين قوسين “الأكلات الطيبة” و التي كانت تشكل الكم الأكبر من التعزيز الإيجابي في ذاكرة الطفل و الشاب الصغير فينا في زمن لم نعتد فيه على المكافآت الكبيرة كجيل التابلت و الآيباد أو البلاي ستيشن نحن الذين عشنا حياة انقسمت بشكل تلقائي إلى مرحلتين ما قبل الحرب و ما بعد المنفى. قبل أن تنحدر أيامنا من دفء البيت و لمّة العائلة و ألفة الأصدقاء إلى صقيع الغربة و وحشة المنفى و مرارة الوحدة بحيث أن تلك الغربة المفروضة علينا بشكل أو بآخر، جعلت بحثنا عن أي نموذج يشبه حالة الطفولة و الشباب الحي الجيران رفاق المدرسة أو الطريق شيئاً بمثابة القشة التي يتعلّق بها الغريق ممّا جعل أسماء مثل : بسكويت روبي و الفاخر أو شيبس ديربي و علكة شعراوي إخوان تنقذ البقية الباقية من الماضي فينا. الماضي الذي تربينا عليه و الذي حملناه كعبء معنا طوعاً أو كرهاً إلى شتات المنافي ليملأ خبايا الحجرات الثلاثة للروح، الحنين و الأمل و الذكرى

 ‎ كنت في زيارة لبيت والديّ في ألمانيا الذي يقع في مدينة كبيرة نسبياً مقارنة بمدينتنا الصغيرة التي تفتقد للكثير من المنتجات الغذائية المستخدمة في المطبخ العربي و الشرقي عموماً . بعد أن تسوّقت أمي بعض الأغراض وقفت في الطابور على صندوق الدفع . كنت بجانبها عندما التفتُّ إلى يميني حيث تراكمت مجموعة من الصناديق الكرتونية بترتيب هرمي عجائبي . توجّهت إليها و أنا في حالة دهشة وليدة مدفوعة بحماسة بريئة كأنني لم أغادر الطفولة أبداً . فقد كان ما رأيته فيها كفيلًا بإيقاظ كلّ المشاعر التي تدعوني لتجريب شكل آخر لأيامي هنا في ألمانيا . اصطفّت في إحدى الصناديق تلك الأكياس الحمراء الصغيرة بصورة السوبرمان و التي نعرفها جيّداً كأطفال و لا تزال ذات الجملة التي كررناها مراراً في إعلانها ترن في أذني : هي يلا يا أصحاب ناكل بطاطا ديربي ! كنت أمامها بين حالتين ، حالة الأنا التي كنت عليها و حالة الأنا الطفلة التي تقف وجهاً لوجه مع زمن ماضٍ بأكمله الحارة القديمة مساكب الورد البلدي والشبابيك الأحلام البوابات الحياة التي كان أهلنا يقولون لنا ستتذكرونها بحنين عندما تكبرون فجأة أصبحنا غرباء حتى عنها نبحث عن أنفسنا فلا نجدها فنلوذ للذكرى ربما نجد فيها طوق النجاة لذاتنا المفقودة. نادتني أمي فجأة : ريما بدك ديربي؟ فصحوت من مستنقع الأفكار الذي غرقت فيه للحظات و قلت لها : اي بدي! ‎ أشرت للعامل الشاب فتوجّه نحوي بادرته بالسؤال مباشرة : شو عندكن غير الديربي من أكلات الشام الطيبة ؟ فأشار بيده و قبل أن يبدأ الكلام تعلّق نظري مباشرة بالرف الذي أشار إليه.

لم أسمع فعلياً ما الذي قاله فالإجابة أتتني بشكل علب مصطفة على الرفوف بألوانها البنية الزرقاء و الصفراء التي أعرفها جيدًا هذا بسكويت الفاخر بنوعيه بالشوكولا و الشوكولا البيضاء و ذاك بسكويت روبي بكريمة البندق أو الكاكاو و أنا بينها شعرت أنني لن أشفى أبداً من مرض الغربة لكن هذه الأطايب ستعمل في روحي عمل المسكّنات في ألم الجسد . تخلّصها من عذابات و معاناة صغرى و تتركها مفتوحة على احتمالات كثيرة ليس أقلّها احتمالات القهر الناتجة عن غصّة الشّعور بمرارة الوحدة في حلقك رغم حلاوة الطعم الذي يعبر منها للسانك. أخذت ما أردت و في طريق العودة احتضنت حقيبتي كمن يحتضن طفلاً وليداً. كنت في عجلة غريبة من أمري للوصول إلى البيت للتباهي بالكنز الذي وجدته في المحل الذي لم يشبه بأيّ شكل من الأشكال دكّان الحاجة أم عمر أو بقالية هيثم ! هكذا هي الحياة التي انبعثت على غفلة من الزمن في شرايين روحي و كأنّني لأوّل مرة أتلمّس الحدّ الفاصل بين أناي الماضية و أناي الحاليّة بين الحاضر منّي و الغائب بين ما استسلم للموت و ما يصحو ليركب صهوة الريح . بين المقيّد إلى صخرة الواقع و الراغب في التحليق فوق الغمام . أدركت للحظة أنّني كنت أتلمّس الكيس داخل الحقيبة بدأت السطوح و الأشكال تتلاشى بين أصابعي و لم يبقَ منها سوى صوت. ‎ أغمضت عيني محاولة لتمييزه لتبيّنه و عزله عن ضجيج الباص كان لحناً لأغنية معتادة من ذلك النوع الذي نحسّ بأننا سنفتقده إن غاب كانت ميادة الحناوي تشدو بها من خلال المذياع و الذي لضعف الإشارة فيه أحياناً لم يكن يصلنا منها سوى كوبليه : سيبولي قلبي وارحلوا ! ‎لكنّ الأصوات جميعها هناك غابت تحت سطوة صوت واحد أكلها جميعاً صوت آلة الحرب اللعينة فتساوت لا لها و لا عليها .

وصلت أخيراً إلى البيت نهبت الدرجات صعوداً بلهفة المشتاق لأقول لهم : تعو شوفو شو لقيت . أمسك ابني الحمزة بالأكياس الصغيرة و قطع البسكويت التي بدت له مملّة و غير ملفتة قائلًا : شو هذا ؟! أجبت : هي أكلاتنا الطيبة دوق ما أطيبها . و شرع بفتح أحدها و تذوّقه فلم يعجبه الطعم و كان مستغرباً من استغرابي لرأيه في المنتجات التي لم تكن فعلًا سيئة الطعم لكنّها شيء مختلف تماماً عما اعتاد ذوقه عليه قلت له : الفاخر جرب الفاخر . تناول واحدة من البسكويتات المدوّرة المحشوّة بالكراميل كسر منها قطعة صغيرة و تذوّقها ثم قال بحاجب مرفوع : طيبة بس تويكس أطيب منها. ‎أخذتها من يده أكلت قطعة منها أغمضت عيني عدت إلى حارتنا القديمة و سمعت بوضوح ذابح نشيج صوت ميادة و هو يجاهد للغناء من خلال الإشارة المتقطعة ثم سالت دمعة على خدي . كان ذلك هو الفرق بين من يأكل بفمه و من يأكل بذاكرته. ‎سيبولي قلبي و ارحلوا نعم لقد تركنا قلوبنا هناك، و رحلنا

حول ريم رشدان

فلسطينية من مواليد مخيم اليرموك، كاتبة ومترجمة، تخرجت من جامعة دمشق، كلية الآداب، قسم أدب انجليزي، وحاصلة على ماجستير لغويات، وماجستير ارشاد نفسي وتربوي. لها عدة كتابات منشورة. مقيمة حاليا في ألمانيا.

شاهد أيضاً

محطة (1) ـ تغريد دواس

حاولت أن أكتب هنا بلا هوية، فما يهم إن كانت تغريد التي تكتب أو خديجة؟  …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *